فصل: فصل في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصول أهل السنة والجماعة (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



.فصل في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصول أهل السنة والجماعة (1):

سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)…………
(1) أي أسس عقيدتهم.
(2) قوله: (سلامة قلوبهم وألسنهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم):
ولم يقل: وأفعالهم، لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتى لو فرض أن أحدًا نبش قبورهم وأخرج جثثهم، فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان.
* فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم.
* فهم يحبون أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. وذلك للأمور التالية:
أولًا: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
ثانيًا: أنهم هو الواسطة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.
ثالثًا: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.
رابعًا: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم لله ولرسول صلى الله عليه وسلم.
* فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، وتري أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوق: حق الصحابة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وقوله: (لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم): سبق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من اجتمع به مؤمنًا به ومات على ذلك، وسمي صاحبًا، لأنه إذا اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما غير الرسول، فلا يكون الشخص صاحبًا له حتى يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحبًا.
كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (1) ….
(1) استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر: 10].
* هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [الحشر: 8]، وعلي رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
ففي قوله: {يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا} : إخلاص النية، وفي قوله: {وينصرون الله ورسوله} : تحقيق العمل، وقوله: {أولئك هم الصادقون}، أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية.
ثم قال في الأنصار: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]، فوصفهم الله بأوصاف ثلاث: {يحبون من هاجر إليهم}،{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا}،{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
* · ثم قال تعالى بعد ذلك: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان …} الآية، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلى يوم القيامة، فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن يجعل في قلوبهم غلًا لهم، فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم، فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم: {والذين جاءا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا}.
* ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة، قالت: لا تعجبون! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم!!
* وقوله: {ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا}، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان، ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلى يوم القيامة.
* {ربنا إنك رءوف رحيم} : ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
(1) (طاعة): معطوف على قوله: (سلامة)، أي: من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم … إلخ.
(2) السب: هو القدح والعيب، فإن كان في غيبة الإنسان، فهو غيبة.
«أصحابي (1) فو الذي نفسي بيده (2) لو أن أحدكم أنفق مثل أحد (3) ذهبًا ما بلغ مد (4) أحدهم ولا نصيفه» (5) ………………………………
(1) أي: الذين صحبوه، وصحبه النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها تختلف: صحبه قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد حين يصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل ما المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: «لا تسبوا أصحابي»، والعبرة بعموم اللفظ.
ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلى الإسلام، لهذا قال: «لا تسبوا أصحابي»، يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله.
وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله، فما بالك بالنسبة لمن بعدهم.
(2) أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم: «لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
(3) (أحد): جبل عظيم كبير معروف في المدينة.
(4) المد: ربع الصاع.
(5) (ولا نصيفه)، أي نصفه. قال بعضهم: من الطعام، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب، بقرينة السياق، لأنه قال: «لو أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»، يعني: من الذهب.
وعلى كل حال، فإن قلنا: من الطعام، فمن الطعام، وإن قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلى جيل أحد من الذهب لا شيء.
فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفق واحد، والمنفق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم، فإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون.
* وهذا النهي يقتضي التحريم، فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحدًا منهم على الخصوص، فإن سبهم على العموم، كان كافرًا، بل لا شك في كفر من شك في كفره، أما إن سبهم على سبيل الخصوص، فينظر في الباعث لذلك، فقد يسبهم من أجل أشياء خلقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه.
ويقبلون (1) ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم (2) ……….
(1) أي: أهل السنة.
(2) قوله: (ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائهم ومراتبهم):
الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد منقبة له.
والمراتب: الدرجات، لأن الصحابة درجات ومراتب، كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله.
فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم، فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك:
فمثلًا ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل.
ويقبلون مثلًا ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله، وهذه فضيلة.
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته في الغار.
ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: «إن من أمن الناس على في ماله وصحبته أبو بك».
وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي على رضي الله عنهم وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل، يقبلون هذا كله.
وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم، فالخلفاء الراشدين هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، كما سيذكره المؤلف.
(1) دليل ذلك قول تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين الذين أنفقوا وقاتلوا وكلا وعد الله الحسني} [الحديد: 10].
فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي االقعدة، فالذين أسلموا قبل ذلك، وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟
فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم، كأن نرجع إلى (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر أو (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البر أو غير ذلك من الكتب المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم، ويعرف أن هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.
وقول المؤلف: (وهو صلح الحديبية):
- هذا أحد القولين في الآي، وهو الصحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. رواه البخاري.
- وقيل: المراد فتح مكة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم.
(1) المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة.
(2) الأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
- وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصر فقط.
- فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أوطانهم، وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء، كل ذلك هجرة إلى الله ورسوله، ونصرة لله ورسوله.
- والأنصار أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم في بلادهم، ونصروا صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنهم منعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.
ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة: 100]، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} [التوبة: 117]، فقدم المهاجرين، وقوله في الفيء: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم …} [الحشر: 8]، ثم قال: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} [الحشر: 9].
(1) أهل بدر مرتبتهم أعلى من مراتب الصحابة.
* وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وسمي الله تعالى يومها يوم الفرقان.
* وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلى مكة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، معهم سبعون بعيرًا وفرسان وخرجوا من المدينة لا يريدون قتالًا، لكن الله عز وجل بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم.
* فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير، أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخًا إلى أهل مكة يستنجدهم، فانتدب أهل مكة لذلك، وخرجوا بأشراف همه وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عز وجل: {بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله} [الأنفال: 47].
* وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير، فتأمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله، لا نرجع حتى نقدم بدرًا، فنقيم فيها ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتضرب علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا.
* وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن ولله الحمد كان الأمر على عكس ما يقول، سمعت العرب بهزيمتهم النكراء فهانوا في نفوس العرب.
قدموا بدرًا، والتقت الطائفتان، وأوحي الله تعالى إلى الملائكة: {إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا اله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} [الأنفال: 12- 14].
حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة- ولله الحمد – على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعين رجلًا، وقتلوا سبعين رجلًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من كبرائهم وصناديدهم، سحبوا، فألقوا في قليب من قلب بدر خبيثة قبيحة.
* ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا». فقالوا: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»، والنبي عليه الصلاة والسلام وقف عليهم توبيخًا وتقريعًا وتنديًا، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقًّا، قال الله تعالى: {ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} [الأنفال:14]، فوجدوا النار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق، ولكن أني لهم التناوش من مكان بعيد.
* فأهل بدر الذين جعل الله على أيدهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر، أطل الله عليهم، وقال: (اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)، فكل ما يقع منهم من ذنوب، فإنه مغفور، لهم، بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالى على أيديهم.
* وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم، فهو مغفور لهم.
- إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك.
- وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر، فسيوفق للتوبة والرجوع وإلي الإسلام.
وأيا كان، ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحدًا منهم كفر بعد ذلك.
أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان:
وسبب هذه البيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربع مئة رجل، لا يريدون إلا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون، منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، {وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون} [الأنفال: 34]، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات.
* وأرى الله تعالى من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولى تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة، فإن ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتى قالوا: (خلأت القصواء)، يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعًا عنها: «والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل». ثم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها».
وجري التفاوض، وأسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، لأن له رهطًا بمكة يحمونه، أرسله إلى أهل مكة، يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء معتمرًا للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبر ذلك على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا ولا يفروا إلى الموت. وكان النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يبايع الناس، يمد يده فيبايعونه على هذا البيعة المباركة التي قال الله عنها: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10]، وكان عثمان رضي الله عنه غائبًا، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمني: «هذه يد عثمان».
ثم تبين أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش، حتى انتهي الأمر على الصلح الذي صار فتحًا مبينًا للرسول عليه الصلاة والسلام.
* هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيمًا} [الفتح 18- 19].
* وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فوصفهم الله تعالى بالإيمان، وهذه شهادة من الله عز وجل بأن كل من بايع تحت الشجرة، فهو مؤمن مرضي عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»، فالرضي ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النار ثبت بالسنة.
* وقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»، قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيًا} [مريم:71]؟
فالجمع من أحد وجهين:
الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط، لأن هذا نوع ورود بلا شك، كما في قوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون} [القصص: 23]، ومعلوم أنه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريبًا منه، وبناء على هذا، لا إشكال ولا تعارض أصلًا.
والوجه الثاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلا ويدخل النار، وبناء على هذا القول، فيحمل قوله: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة». لا يدخلها دخول عذاب وإهانة، وإنما يدخلها تنفيذًا للقسم: {وإن منكم إلا واردها}، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان.
* وقوله: (الشجرة): الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحتها يبايع الناس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافه عمر، فلما قيل له: إن الناس يختلفون إليها – أي: يأتونها – يصلون عندها، أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت.
قال في (الفتح): وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رجعنا من العام المقبل يعني: بعد صلح الحديبية فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها، فلم نقدر عليها.
وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد، لأن نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد والله أعلم.
وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأننا نظن أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلى الآن، لعبدت من دون الله.
* والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص.
- أما المعلقة بالوصف، فأن نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة، وكل متق أنه في الجنة، بدون تعيين شخص أو أشخاص.
وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها، لأن الله تعالى أخبر به، فقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} [لقمان 8- 9]، وقال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133].
- وأما الشهادة المعلقة بشخص معين، فأن نشهد لفلان أو لعدد معين أنهم في الجنة.
وهذه شهادة خاصة، فنشهد لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين.
مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: (كالعشرة)، يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة، لقبوا بهذا الاسم لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في حديث واحد وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة ابن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر ابن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات.
وقد جمع الستة الزائدة عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد، فاحفظه:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ** وعامر فهر والزبير الممدوح

هؤلاء بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم في نسق واحد، فقال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة …»، ولهذا لقبوا بهذا القلب، فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
(2) ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات:2]، خاف أن يكون عمله وهو لا يشعر، فاحتفي في بيته، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلًا يسأله عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار!! فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال ثابت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة»، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وغيرهم من الصحابة (1) ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر (2) ………….
(1) مثل أمهات المؤمنين، لأنهن في درجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم.
(2) التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب.
* ففي (صحيح البخاري) وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان.
* وفي (صحيح البخاري) أيضًا آن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
فإذا كان على رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما.
* قوله: (وغيره)، يعني: غير علي من الصحابة والتابعين.
* وهذا متفق عليه بين الأئمة.
- وقال الإمام مالك: ما رأيت أحدًا يشك في تقديمهما.
- وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر.
ومن خرج عن هذا الإجماع، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.
ويثلثون بعثمان (1) ويربعون بعلي (2) رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة (3) …………
(1) (يثلثون)، يعني: أهل السنة، يجعلون عثمان هو الثالث.
(2) (ويربعون بعلي) أي: يجعلون عليًّا هو الرابع.
وعلي هذا، فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
(3) استدل المؤلف لهذا الترتيب بدليلين:
الأول: قوله: (كما دلت عليه الآثار): وقد سبق ذكر شيء منها.
والثاني: قوله: (وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة):
فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضًا دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي، وهو كذلك، لأن حكمة الله عز وجل تأبي أن يولي على خير القرون رجلًا وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر: كما تكونون يولي عليكم، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من هو خيرهم.
مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي (1)، وقدم قومًا عليًّا (2)، وقوم توقفوا (3).
(1) فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي.
(2) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة.
(3) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول.
* فالآراء أربعة:
- الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
- الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.
- الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.
- الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو على، فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن لا نري أحدًا يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر.
لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان (1) وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة (2) ولكن المسألة التي يضلل فيها مسألة الخلافة (3) وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم على (4) ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله (5) ……………….
(1) هذا الذي استقر عليه أمر أهل السنة، فقالوا: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، على ترتيبهم في الخلافة. وهو الصواب، كما سبق دليله.
(2) يعني: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف، فمن قال: إن عليًّا أفضل من عثمان، فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا رأي من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئًا.
(3) فيجب أن نقول: الخليفة بعد نبينا في أمته أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي. ومن قال إن الخلافة لعلي دون هؤلاء الثلاثة، فهو ضال، ومن قال: إنها لعلي بعد أبي بكر وعمر، فهو ضال، لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
(4) وهذا ما أجمع عليه أهل السنة في مسألة الخلافة.
(5) الذي يطعن في خلافة أحد من هؤلاء، ويقول: إنه لا يستحق الخلافة! أو: إنه ممن سبقه! فهو أضل من حمار أهله.
وعبر المؤلف بهذا التعبير، لأنه تعبير الإمام أحمد رحمه الله، ولا شك أنه أضل من حمار أهله، وإنما ذكر الحمار، لأنه أبلد الحيوانات على الإطلاق، فهو أقل الحيوانات فهمًا، فالطعن في خلافة أحد من هؤلاء أو في ترتيبه طعن الصحابة جميعًا.
* فيجب علينا أن نعتقد بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم في أحقية الخلافة على هذا الترتيب، حتى لا نقول: إن هناك ظلمًا في الخلافة، كما ادعته الرافضة حين زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة كلهم ظلمة، لأنهم ظلموا على بن أبي طالب، حيث اغتصبوا الخلافة منه.
* أما من بعدهم، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على الناس، فهو أحق بالخلافة من غيره، لأن من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولي عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم، كما قال الله تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون} [الإنعام: 129].
* واعلم أن الترتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره، فإنه يفضله في كل شيء، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة، فيجب التفريق بين الإطلاق والتقييد.
ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) …………………………….
(1) أي: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحبون لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكرهونهم أبدًا.
ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر، فقد أبغض عليًّا، وعلى هذا فلا يمكن أن تحب عليا حتى نبغض أبا بكر وعمر، وكأ، أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب مع أنه تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يثني عليها على المنبر.
فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.
- - ومن أهل بيت أزواجه بنص القرآن، قال الله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطيرًا} [الأحزاب، 28- 33]، فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام بلا ريب.
- وكذلك يدخل فيه قرابته، فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطلب وأبنائه.
- فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإيمانهم بالله.
فإن كفروا، فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو طالب، يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه.
ويتولونهم (1) ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) حيث قال يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي» (3) ……………………………………
(1) أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصديق، والقريب، والمتولي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة، وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة.
(2) أي: عهده الذي عهد به إلى أمته.
(3) هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهذا الغدير ينسب إلى رجل يسمي (خم)، وهو في الطريق الذي بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصلاة والسلام فيه منزلًا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس، وقال: «أذكركم الله في أهل بيتي»، ثلاثًا، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم.
وقال أيضًا (1) للعباس عمه وقد اشتكي إليه أن بعض قريش يجفو (2) بني هاشم (3) فقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي» (4) ………………….
(1) (أيضا): مصدر آض يئيض، أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعني: عودًا على ما سبق.
(1) (2) (يجفو) يترفع ويكره.
(2) (3) * (هاشم): هو جد أبي الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3) (4) أقسم صلى الله عليه وسلم أنهم يؤمنون، أي: لا يتم إيمانهم، حتى يحبوكم لله، وهذا المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين، لأن الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله، لكن قال: (ولقرابتي): فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النبي عليه الصلاة والسلام.
* وفي قول العباس: (إن بعض قريش يجفو بني هاشم): دليل على أن جفاء آل البيت كان موجودًا منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الحسد من طبائع البشر، إلا من عصمه الله عز وجل، فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام على مأمن الله عليهم من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم.
* فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لأل البيت: أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية لرسول صلى الله عليه وسلم في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلو فيهم، حتى يوصلوهم إلى حد الألوهية، كما فعل عبد الله بن أبي طالب حين قال له: آنت الله! والقصة مشهورة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى بن إسماعيل (1)، واصطفى من بني إسماعيل كنانة (2)، واصطفى من كنانة قريشًا (3)، واصطفى من قريش هاشم (4)، واصطفاني من بني هاشم» ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين (5) ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة (6) ……………………….
(1) (إسماعيل): هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصة في سورة الصافات.
(2) (كنانة): هو الأب الرابع عشر الرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أله وسلم.
(3) (قريش): هو الأب الحادي عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فهر بن مالك، وقيل: الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة.
(4) (هاشم) هو الأب الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5) قوله: (أمهات المؤمنين): هذه صفة لـ (أزواج) فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة، قال تعالى: {النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض، لأنهن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله مختارون من خلقه.
لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم} [غافر: 7- 8] فقال: {وأزوجهم}، فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة.
(1) (خصوصًا): مصدر محذوف العامل، أي: أخص خصوصًا.
(2) (خديجة بنت خويلد): تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمسًا وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها صلى الله عليه وسلم انتفاعًا كثيرًا، لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحدًا.
* فكانت كما قال المؤلف: (أم أكثر أولاده): البنين والبنات، ولم يقل المؤلف: أم أولاده، لأن من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية.
* وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطيب، والطاهر. وأما البنات، فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب.
(3) لا شك أنها أول من آمن به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءها وأخبرها بما رأي في غار حراء، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا. وآمنت به، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسي. (الناموس) أي: صاحب السر. فآمن به ورقة.
ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل.
وعاضده على أمره (1) وكان لها منه المنزلة العالية (2) والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (3) التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (4) ………………………………
(1) أي: ساعده، ومن تدبر السيرة، وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يحصل لغيرها من نسائه.
(2) قوله: (وكان لها منه المنزلة العالية): حتى إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلى صديقاتها، ويقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد»، فكان يثني عليها، وهذا يدل على معظم منزلتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3) أما كونها صديقة، فلكمال تصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنه لما نزلت براءتها، قال: إني لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.
وأما كونها بنت الصديق، فكذلك أيضًا، فإن أباها رضي الله عنه هو الصديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها، لأن هذه الأمة أفضل الأمم، فإذا كان صديق هذه الأمة، فهو صديق غيرها من الأمم.
(4) قوله: «على النساء»: ظاهره العموم، أي: على جميع النساء.
وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء، أي من أزواجه اللاتي على قيد الحياة، فلا تدخل في ذلك خديجة.
لكن ظاهر الحديث العموم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر»، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد.
فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.
- أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.
- وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالًا للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا.
* فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التأريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة.
(1) قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيرًا فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.
القسم الثاني: شيء له أصل، ولكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.
وهذان القسمان كلاهما يجب رده.
القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله:
* (والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون).
* والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر واحد، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر».
* فما جرى بين معاوية وعلى رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.
لكن لا شك أن عليا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا إن معاوية كان مجتهدًا.
* ويدل على أن عليا أقرب إلى الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ويح عمارا تقتله الفئة الباغية»، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصواب مع على إما قطعنًا وإما ظنًا.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره (1) ….
(1) وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:
* وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.
* لا يعتقدون ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون».
ولكن الواحد منهم قد يفعل شيئًا من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.
بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة (1) ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر (2) ………………………………………………
(1) يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: (ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر).
(2) هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.
* ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم (1)، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه (2)، أو أتي بحسنات تمحوه (3). أو غفر له بفضل سابقته (4) ……………………………………….
(1) وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «خبر الناس قرني»، وفي قوله: «لا تسبوا أصحابي، فلو الذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
(2) يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالى:
{والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} إلى قوله: {إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صاحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيما} [الفرقان: 68- 70]، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يؤثر عليه.
(3) لقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114].
(4) لقوله تعالى في الحديث القدسي في أهل بدر: «اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته (1) أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه (2) فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور (3). ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم (4) …
(1) وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق الناس في ذلك.
(2) فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ما من مسلم يصيبه أذي من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.
(3) سبق دليله، فتكون هذه من باب أولي آلا تكون سببًا للقدح فيهم والعيب.
* فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان:
الأول: خاص بهم، وهو مالهم من السوابق والفضائل.
والثاني: عام، وهى التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والبلاء.
(4) القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جدًّا نزر أقل القليل، ولهذا قال: (مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم).
* ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزني بإحصان وزني بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.
من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح (1) ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء (2) ………………………….
(1) فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين.
(2) هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم من قوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وعلى هذا تثبت خيرتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أجوالهم.
فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسي، خير من النقباء أصحاب موسي، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]، وخبرنا الصحابة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الخلق، فأصحابه خير الأصحاب بلا شك.
هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق، إلا من استثنوا منهم.
(1) أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني» فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقًا ولا لاحقًّا.
(2) أما كون هذه الأمة خير الأمم، فلقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] وقوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الرسل، فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم.
وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني»، وفي لفظ: «خير أمتي قرني»، والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعوا التابعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية). أ هـ.
وكان أخر الصحابة موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مئة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): (واتفقوا على أن أخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومئتين).